١٩‏/٠٥‏/٢٠٠٧

لقطات

ربما لأني أمر بقصة حب ما ، فأستشعر الأشياء بشكل مختلف... أو ربما هي أمور تلمس القلب حقا ، لا أدري ، لكنني لا محالة ، قد سعدت بكاميرا جهازي المحمول ، و التقطت بعض صور ، أعتذر لرداءتها ، لكنها تحكي قصصصا عدة ، لذا ، فقد استوفت أجرها .. ـ

١-
في حديقة الأورمان ، تطير طيور خضراء ضخمة ، تصدح بغريب الصوت ، ذيولها و رؤوسها ملونة ، و تعيش أعلى النخلات العاليات هناك ،في مجموعات من حوالي العشرة ، مع التركيز ، اكتشفت أنهم ببغاوات، ووفقا لكتاب تصفحته عن طيور مصر ، فإن هذه الطيور قد كانت تعيش في الأسر ، و هربت ، مكونة تجمعات و مستعمرات حرة لها في وسط المدينة ، في حديقتي الأورمان و الحيوانات.



لقد عاشت في النخلات نظرا لارتفاعها الشاهق، و بعدها عن الناس ، فهذه النباتات العملاقة زرعت هناك في بداية القرن ، و ظلت تنموا في تطورها الطبيعي بعيدا عن كل الجنون الذي أكل المدينة خلال كل هذه السنوات ، كانت المدينة تكبر ، و تتغير ، و تصير مسخا ضالا ، و استمرت النخلات في الصعود ، إيواء الطيور المحررة
و احتفظت نخلة منهن بهذا النقش الذي خطه عاشقان
مذيل بتاريخه لعام ١٩٤٩


٢-

في مبني عتيق كما أهوى ، يعيش صديق حميم لي ، أتمشى لزيارته كلما كان الجو صافيا في أواخر الليل ، في نفس بناية صديقي هذا توجد شركة المصطفى لإلحاق العمالة المصرية بالخارج ، و كنت إن زرته خلال اليوم أجد بضعة شباب و رجال و فتيات و هم جلوس على عتبات السلالم أمام مكتب الشركة ، و عادة ما يطول انتظارهم.
في العمارة مصعد خشبي قديم ،حمولة ثلاثة أفراد كما كتبوا علية بورقة قبيحة ، و لازال بجوار لوحة المفاتيح فيه ، توجد لوحة نحاسية شديدة الأناقة ، و كتبت عليها تفاصيل صيانة المصعد بفرنسية منمنمة ، و بأسفل اللوحة ، توجد علامة الشركة الموردة ، موصيري -كورييل و شركاهم



موصيري هذا بالطبع هو اسم واحدة من أهم عائلات اليهود في القرن الماضي في القاهرة ، و كانو ضالعين في العديد من المؤسسات المالية ، حتى كان هناك بنك باسم موصيري لفترة ما ، و لا شك أن العائلة كانت من أعمدة الاقتصاد المصري في ذاك الوقت ، و يمكن مراجعة كتاب د.محمد أبو الغار حول اليهود ، أو الكتاب الأكثر تخصصا 'الرأسمالية اليهودية في مصر' أنس مصطفي كامل" و نشرته دار ميريت
أما كورييل ، فكان مليونيرا معروفا أيضا ، من كبار أثرياء اليهود ، اسمه دانييل نسيم كورييل و كان يمتلك مصرفاً بشارع الشواربي و فيلا في الزمالك- تبرع بها ابنه هنري لدولة الجزائر عند طرده من مصر ، و أصبحت سفارة لها - وهو من أسرة أسبانية الأصل هاجرت زمن محاكم التفتيش و اضطهاد اليهود في أواخر العصور الوسطى إلى عدة دول ، منها إيطاليا التي عاشت بها أسرة كورييل· وقد هاجرت الأسرة من إيطاليا إلى مصر سنة 1850م حسبما يذكر هنري كورييل في سيرته الذاتية لأن ظروف مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت تشجع على العمل.
و بالطبع فالابن هنري ، هو من مؤسسي الحركة الشيوعية المصرية و حركة حديتو ، و كانت لها ما لها من تأثير علي حركة الضباط الاحرار. رغم اختلاف النظريات و الآراء في الرجل

أعود لأصل الموضوع ، شركة المصطفى ، و مريدينها من المدرسين و المحاسبين و عداهم ، و هم جالسين علي الاعتاب في انتظار العقد فالسفر لبلاد النفط الحارة
و جدت هذه الكتابات علي المصعد ، و الا أذكر أنني تأثرت لشيء قرأته في حياتي مثل هذه الجملة البسيطة

"هتوحشني ، بحبك ...البيت هيبقى وحش قوى من غيرك "
يبدو أن الفتاة لم تحتمل فراق زوجها فسطرت مشاعرها – بعكس عادة المصريين – بشكل سافر على مرايا و زجاج المصعد

و هذه واحدة أخرى مكتوبة لفتاة- زوجة - حبيبة - أخت: ـ

"هتوحشيني قوي ، بجد مش عارفة حاقعد ازاي من غيرك ، بحبك " ـ
"ba7ebak,hatew7asheny"

و على حائط المصعد كتبت اخرى:ـ
" هاتوحشيني قوي يا مي ، سمر حبيبتك" ـ

لا ألوم دول النفط التي شتتنا لأعوام و أعوام ، و لا ألوم من تركت زوجها و من ترك حبيبته بحثا عن ما يسد رمقهما في مستقبلهما المشترك ، و لكن ، لا أعلم إلى متي ستظل بلادنا لا تأوينا ، و إلى متى سيجلس الاحباء على عتبات السفارات و الشركات آملين في السفر ، و باكين عند الفراق
من الغريب أنه في المتر المربع، أقرأ اسم عائلات هاجرت من إيطاليا في زمن ماضي لفردوس القاهرة، و الآن سافرت مي إلى بلدان لن ترحمها أبدا.
فليعود الغائبون
على وطن آخر ، في يوم آخر ، في زمان آخر
و يمكن أنا محبكها حبتين

٠٢‏/٠٥‏/٢٠٠٧

قصة

هكذا حدثت بالضبط ، بلا زيادة أو نقصان ..

-١-
فقد كنت منذ إثني عشر عاما ، بعد فتى غض ، أنهيت دراستي الثانوية ، و أحلم بالسينما ، لذا تقدمت بأوراقي لمعهد السينما بالهرم ، و أذكر أنني قد كنت أذهب يوميا لهناك قبل أيام من موعد اختباراتهم لشؤون عدة ، قاطعا الطريق بالميكروباص ، في حوالي الأربعين دقيقة ، من بيت أهلي القديم أقصى مدينة نصر ، إلى أكاديمية الفنون بالهرم ، الآن يستغرق هذا المشوار ما يفوق الساعة و النصف بسيارتي .
حينها ، كنت بعد صغيرا ، محملا بأقل ما أتيح من الهموم ، لم أدرك المصائب بعد ، و لم أكن أحتكم على مال أو دار أو صاحبة ، و لا أظن أنني كنت أمتلك أي شيء باستثناء حلمي بالعمل في هذا الحقل .
بدأت الاختبارات ، و كانت - و لا زالت - تنقسم إلى ثلاث تصفيات ، و كان المتقدمون في عامي هذا بقسم الإخراج قد تجاوزوا الـ ٣٤٠ متقدم ، بعد الاختبار الأول أصبحنا حوالي ٢٠٠ ، بعد الثاني أصبحنا حوالي ٦٠ ، و سيتم منهم اختيار ثمانية فقط لدخول المعهد و بدء الدراسة ، و كانت حالة تنافسية بغيضة ، لا تتسم بأي شفافية ، أو رؤية أكاديمية.
و حدث أن رسبت في الاختبار الأخير ، و لم أكن من الثمانية المختارين ، و الحق أقول أنها كانت واحدة من أحلك لحظات حياتي ، حزنت ، و ربما بكيت ، لا أذكر تماما ، و لكنني سرت علي غير هدي لساعات طوال ، ثم ركبت ، ووصلت بيت أهلي صامتا ، مطرقا ، حزينا.
وجدت حينها ضيفا جالسا مع أبي ، لم أره من قبل ، كان شيخا معمما ، بلحية بيضاء ، و عيون خضراء ، ووجه أبيض باسم ، و مسبحة سوداء طويلة رقيقة ، قال أبي: تعالى ياحمد سلم على الشيخ علي.
تقدمت و مددت يدي مسلما بخجل المراهق ، و استغراب الصغار من هذه الهيئة ، و بقلب حزين من أحداث يومي ذاك.
مد الرجل يده ، و أذكر أنه لم يرمي السلام ، فقط قال: مالك يا احمد؟ قلت : مافيش.
جائت أمي من الداخل و أجابت الشيخ المعمم: أصله النهاردة عرف انهما ما خدوهوش في المعهد السينما ، فزعلان شوية.
تبسم الرجل ، قال: و إيه المشكلة يعني؟
قلت: و لا حاجة ، أنا بس كان نفسي أبقى باشتغل في السينما ، و المعهد كان حاجة مهمة قوي.
قال: يا عم أحمد ، انت ممكن تعمل كل حاجة نفسك فيها ، سيبك من الكلام ده ، مش شرط المعهد خالص يعني.
قلت: بس ، أنا ماعرفش أي حد ، و لا لي أي علاقات ، و لا عارف أبتدي منين ، هو الظاهر بقى مافيش نصيب. - قلت ذلك بإيمان كامل -.
ضحك الشيخ علي ، قال قرب يا احمد ، قربت بخجل منه ووقفت أمامه ، مد يده بالمسبحة التي يمسكها ، قال: إسحب حبة .
مددت يدي و مسكت حبة من المسبحة ، و هي لا تزال في يده ، جذبت حبة ، فوجدتها معقودة داخل الخيط مثل أي مسبحة ، و إن جذبت فإنني قاطع الخيط لا محالة.
قال: شد و لا يهمك. شددتها ، و هو ممسك المسبحة في يده بقوة ، و إذا بالحبة تنسلت إلى يدي ، و الخيط لم ينقطع .
نظرت للحبة السوداء ، كانت عادية بها ثقبي دخول الخيط ، و يستحيل أن تنفك من الخيط بدون قطعه ، أو كسرها ، كانت سوداء و ناعمة ، تفوح منها رائحة المسك، و كانت المسبحة في يده سليمة.
قال الرجل : خليها معاك ، و إنشاء الله حتنول اللي نفسك فيه.
استأذنت ، دخلت غرفتي ، تأملت الحبة السوداء الصعيرة كثيرا ، ثم وضعتها في علبة صغيرة لدي ، و تركتها في خزانة الملابس ، و نمت.

-٢-
درست دراسة لم أحبها كثيرا ، كانت شاقة و مضنية ، و نسيت السينما لعام أو أكثر ، لغزارة المواد الدراسية في جامعتي ، و بعدها عن بيتي ، و مشقة الحياة اليومية، و ربما لإيماني بأن أسلك طريق دراستي أملا في مستقبل عملي ما ، و شاءت الأقدار أن مجموعة من الصدف الصغيرة ، أدخلتني عالم السينما ، و إذا بي أحترف مجالا تقنيا خاصا جدا في صناعة الأفلام ، بلا أية دراسة أكاديمية ، فقط استمرارية التعلم ، و التمرن و المشاهدة ، و لإقحامي في المجال و أنا بعد صغير ، و تدور الأيام دورة أخرى ، و أجد نفسي خلال بضعة سنوات واحد من معدودين في مصر يعملون في هذا الأمر ، و مضطر لتدريب العديد من طلبة معهد السينما على ما أفعله .
كبرت ، و ابيضت شعرات من رأسي و لحيتي، و تغير شكلي مطلقا ، بعدما أطلقت لحيتي ، و قصصت شعري الذي كان طويلا ، و خضت حياة معقدة ، أحببت و فشلت ، و أحببت و فشلت ، و أحببت و سأفشل ، و أصبح لي بيتا ، و أصحاب ، و عملا مرموقا - بعض الشيء - ، و كان مزاجي الاكتئابي لا يفارقني، لذا كتبت قصة طويلة ، وضعت فيها خلاصة مأسٍ مررت بها ، و أناس عدة عرفتهم ، و مدن و أماكن ابتسرت من روحي ، و كان نصا حالك القتامة. طبعته و أعطيته لزملاء و أقرباء ليقرأوه.

-٣ -
منذ أيام مع بعض الأصدقاء ، زرت الحسين لأهداف سياحية ترفيهية بحتة ، و كان يوم الليلة الكبيرة ، شاهدت الموكب- أخذت الكاميرا معي -، صورت رجال الطرق الصوفية ، و هم ينشدون ، و يحملون أعلامهم الملونة ، كبارا و صغارا، رجالا و نساءا ، سرت مشدوها بين الموكب ، تاركا أصدقائي بعيدا ، و سرت بين المنشدين و قارعي الدفوف ، سرت كثيرا ، و أخذت أصور. و الجميع مبتسمين سعداء ، حتي دخلنا المسجد الحسيني ، كانت أصوات همهمة ، و رائحة بخور و مسك ، و كانت أيادي الناس معلقة على شباك مقام الحسين ، تاركا الكاميرا و قفت بينهم ، مددت يدي ، و أمسكت شباك المقام ، و كان النور الأخضر قد كسى وجوهنا جميعا ، ما بين شيوخ معممين ، و رجال مهندمين في سترات ، و فقراء مهلهلين ، و أنا الشاب ذي التيشيرت الأسود، مر من خلفي رجل ما ، و كان ينثر رذاذا معطرا علينا ، قال : "يا سيدي الحسين ، يا سيدي علي" دمعت عينا الرجل إلي جواري ، فلم أتماسك.

-٤-
في اليوم التالي جاءتني مكالمة تخبرني أن نصي الكئيب الذي كتبته ، هنالك جهة متحمسة لتمويله ليصبح فيلما من إخراجي ، و لأول مرة أجدني مخرجا لفيلم طويل ، و أجد العديد من النجوم متحمسين للمشاركة و لو بأصغر الأدوار على عكس عاداتهم ، و أجد أناس عرفتهم و أحببتهم و كتبت عنهم ،الآن أصبحت أنتقي ممثلين و ممثلات ليقوموا بأدوارهم ، و كنت و لا زلت مستغربا حدوث ذلك.
زرت بيت أهلي في ذلك اليوم ، بعد أسبوعين من الغياب ، قالت أمي: يا احمد تفتكر الشيخ علي؟
قلت: أيوة ، دة آخر مرة زارنا كان من زيادة عن ١٠ سنين ، هو بييجي؟
قالت: لأ ، من ساعتها لا شفناه و لا اتصل ، بس عرفنا إنه بقى من أهل الطريق، و له مريدين ، و طريقة صوفية باسمه.
قلت: ماله طيب؟
قالت: اتصل النهاردة الصبح لأول مرة بعد السنين دي ، رد عليه أبوك ، سأل أبوك إن كان زار الحسين امبارح ، أبوك قال له لأ. فسأله ، و أحمد عامل إيه؟ أبوك قاله كويس الحمد لله ، و بس.
قلت: أنا زرت الحسين امبارح
كانت الأم مشدوهة لمعرفتها بي ، و بصعوبة قيامي بشيء كهذا.
قالت : يمكن عشان كده؟ تفتكر شافك؟ بس لو شافك مش حيعرف شكلك أبدا ... قصره ..أنا استغربت قوي من مكالمته.
سكتنا.
تذكرت الرجل و قصة الحبة و المسبحة حينها بعد كل هذه السنوات ، دلفت لغرفتي ، فتحت خزانة الملابس ،ووسط ذكريات كثيرة و جدت العلبة القديمة ، فتحتها ، و لم تكن الحبة هناك ، فقط بقايا من رائحة مسك . ـ


المدونة و التدوينات ، بلا حقوق فكرية ، باستثناء الأعمال الفنية و الموسيقات فهي ملكية خاصة لأصحابها.

  ©o7od!. Template by Dicas Blogger.

TOPO