٣١‏/٠٣‏/٢٠٠٩

ثلاث روايات مصورة ، لا تضيع الوقت

كلما اعترى الأيام فتورها المعتاد ، أجد نفسي أقرأ روايات مصورة ، فهناك شيء ما بصددها يجعلها غير قابلة للمقاومة ، تتابع الصور و النصوص يشكل لي اثارة لاحدود لها، و بالكاد أذكر انني تركت إحداها في المنتصف ، مهما كانت رديئة ، و الحقيقة الكثير منها رديء في تصوري ، و إن كان يحصل على شهرة واسعة.
لفظة "رواية مصورة" Graphic Novel ، هي لفظة مستحدثة ، و الكثير من كتاب و رسامين الكوميكس يرفضون المسمى تماما ، و لكن بعض الروايات المصورة طبقت شهرتها الآفاق مثل :WATCHMEN تلك التي أظنها تستحق كل التقدير.
يقول ألان مور مؤلف WATCHMEN ، و القاص الكلاسيكي : "تلك لفظة تسويقية لم اتعاطف معها أبدا ، المصطلح "كوميكس" أجده الأفضل بالنسبة لي ، الأزمة أن كلمة " Graphic Novel" أضحت تعني كوميكس غالية السعر، لذا فستجد أمثال "دي سي كوميكس" ، أو "مارڤل كوميكس" من مؤسسات يقومون بلصق أية ستة أعداد من أي هراء عديم القيمة تصادف أنهم قد نشروه ، ثم يضعون له غلافا لامعا ، و يطلقون عليها اسم (شي - هلك ، رواية مصورة)..."
بغض النظر عن المسمى ، إلا أنني قد قرأت الكثير خلال الاسبوعين الماضيين ، سواء في صورة كتب احتفظ بها ، أو في صورة رقمية محملة من الانترنت و مقرصنة في الغالب للأسف.
و قد وجدت ثلاثة روايات و اعتبرتهم بمثابة أحداث لا يمكن التغاضي عنها بسهولة سأختصر الحديث عنهم هنا:



- كبرياء بغداد -



كبرياء بغداد ، الحقيقة أعترف أنها لم تعجبني كثيرا رغم الجوائز، لكني أراها رواية مصورة مهمة ، و ذكية (أحيانا) ، هي انتاج عام ٢٠٠٦ ، كُتب في مفتتحها أنها بنيت حول حدث واقعي صار اثناء دخول الامريكان لبغداد ، قفد روى خبر صغير يوما أن القوات الأمريكية قامت باطلاق الرصاص على أربعة من الأسود الذين هربوا من حديقة الحيوان أثناء قصف بغداد ، الرواية تتصور يوم الهروب لهؤلاء الأسود ، و ما تعرضوا له حتى تم اطلاق الرصاص عليهم .
القصة بكاملها - ١٣٠ صفحة - لا يظهر فيها أي من بني البشر ، فقط نسمع تعليقاتهم او حديثهم على خلفية قصة الحيوانات المتكلمة ، الذين لا يعرفونهم كثيرا و يطلقون عليهم "الحراس" بدلا من بني البشر، و هذا أمر أظنه قد يستفز البعض ، خاصة أن لكل الحيوانات في القصة أسماء عربية مثل علي ، صفا ، و رشيد ،أنا لا أكترث ، ولكن ما ضايقني حقا هو التصوير المباشر لوضع الطوائف المتناحرة عن طريق عكسه على واقع الحديقة ثم المدينة/الغابة التي تجد الحيوانات نفسها فيها بعد تحررها ، و كيف لا يستطيعون غض الطرف عن علاقة الكره الموروثة بين الفصائل كالاسود و الغزلان و القردة . و لكن تم التعاطي مع فكرة "التحرير" بذكاء شديد ، و استحضارها للمساءلة طوال النص.


السرد بالقصة يدور بشكل تقليدي جدا ، و يستمر بشكل خَطي مع الأحداث ، و بالكاد ما نجد حدثا موازيا ، او استحضار لفكرة او تخيل ما ، باستثناء بعض مشاهد التذكر النمطية المعتادة ، و لكن ظل إيقاعها متسارع ، و حوارها متزن غير مستزاد.
الرواية تبدو مرسومة و ملونة رقميا ، كشأن الكثير من قصص الحركة في هذا العصر ، أظنه من الأفضل للمراهق قراءة رواية مصورة قريبة للألوان التي اعتادها في العاب الڤيديو و ما عداها ، و لكن هذا لا يمنع أن لهذه المدرسة باع في تطوير الكوميكس بشكل رهيب.




- وداعا شنكي رايس -



كنت قد كتبت من قبل عن كريج طومسون ، مؤلف الرواية المصورة البديعة Blankets ، و هذه الرواية Goodbye Chunky Rice ، هي العمل السابق لها.
القصة أعتبرها واحدة من افضل الروايات المصورة التي قرأتها قاطبة ، فهي تتمحور حول السلحفاة (شنكي) الذي يترك صديقه الفأر (الذي يظهر كحبيب أو عشيق أحيانا) ، ليودع إياه منطلقا لاستكشاف العالم . و الغريب أنه بالرغم من كونها أول أعمال المؤلف إلا أنها أكثر أعماله حداثة و خروج عن المألوف في اشكال الحكي و ربما في الرسم أيضا عن تاليتها.
تنتشر في القصة شخصيات عدة ، كلها مشوهة أو منقوصة بشكل ما ، و شديدة التوحد ، و كعادة مؤلفي الكوميكس النبلاء ، لم يخجل كريج من رسم شخصيات و أفكار قد يظنها المجتمع منفرة كثيرا. فمثلا واحدة من الشخصيات المحورية هما توأمتان ملتصقتان على سطح المركب ، و يتشاركان الرئة و الذراعان و جزء من الرأس ، و لكنهما لا تجِدا إجابة لسؤال شنكي : هل يمكن لأي منكن النفاذ إلى حلم الأخرى؟


أظن المؤلف قد قام بأشكال حكي و رسم غاية في الذكاء و الألمعية ، خاصة أن القصة تسري بين عدة محاور في المكان و الزمان ، فضلا عن تعدد الشخصيات حتى تصبحا السلحفاة و الفأر شخصيات شبه هامشية أحيانا.
و كانت الصفحة الواحدة في الكتاب بمثابة عالم كامل من التفاصيل و الصور و المربعات التي تروي القصة بشكل يبدو عفويا لأقصى درجة ، و أحيانا كان يستخدم التقطيع الكلاسيكي لمربعات الكوميكس كأداة جمالية و ليس أكثر ، و كأنه يرفض التعامل مع كل مربع كوحدة خاصة كما درج الرسامون و اعتادوا.


مؤلف شنكي رايس وراسمها في نفس الوقت ليس له سوى هذان المؤلفان ، و أستغرب تفرده و خصوصية أعماله بالمقارنة بآخرين ، و بالذات مع اعتبار نشأته المحافظة في قريته الصغيرة بالجنوب الأمريكي شديد التدين ، و كيف كان حبه للرسم مثار حنق الأهل و نفور الجيران ، و كيف واجه مخاوفه كلها ليقوم أخيرا بما يحب ، هذه الأجواء رصدها بشفافية في روايته الثانية ، و الحقيقة دوما ما ظننت أن ما عاناه طفلا و شابا في قريته قريب جدا لما يعانيه اي مراهق يهوى الفن في مصر ، فالعالمان يكادا ينطبقان باستثناء التفاصيل الصغيرة ، مثل الدين و الثلوج التي كست الرواية.




- سينما پنوبتكوم -


هذا المؤلف توماس أوت هو حدث خاص ، فالرسام الألماني أبى على نفسه إلا أن تصبح كل أعماله صامتة ، معدومة الحوار ، بلا أي كلمة أو تعليق ، فهو يرسم تتابع من الصور تحكي الحدث بسلاسة مذهلة ، و الأفضل أن كل أعماله تدور في أجواء صادمة سوداوية مما يلائمني تماما.
المضحك ، أن الرسام الألماني و إن ذاع صيته في أوروبا إلا أن أعماله لم تدخل الولايات المتحدة إلا مؤخرا ، على الرغم من عدم وجود مشكلة في اللغة ، لأن النص يعتمد على الصورة فقط ، إلا أنه فيما يبدو فإن المتلقي الأمريكي كان يجد ضيقا ما في متابعة نوع من الكوميكس يختلف عما ألفه طوال تاريخه.
يستخدم أسلوبا من التهشير و الشخبطة لرسم المساحات ، مما يجعل الصورة قريبة لشكل الطباعة الخشبية لكتب العصور الوسطى الأوروبية في رأيي ، و هذا يضفي جوا غيبيا قاتما علي القصص ، و ربما يختزا أحيانا عنصر العصر مما يروي ، فبينما أقرأ ٠ ان جاز التعبير - أشعر أحيانا ان الرواية تدور في بدايات القرن العشرين ، و أحيانا في أربعيناته ، و أحيانا في المستقبل ، كل وفقا للحالة المنبعثة من طريقة الرسم تلك.




دوما ما وجدت كتابة تقارير عن الأفلام و الكتب و الموسيقى أمر شديد الصلف و التعالي ، و لا أحبه بكل مسمياته ، نقدا كان أم تذوقا أم تحليلا ، فالكل بالنسبة لي أمر لا داعي له ، خاصة مع تفرد أذواقنا و اختلاف درجة تلقينا لغالب هذه الفنون و حبنا أو كرهنا لما نشاهد.
و ربما كتبت ما سبق لأتشارك مع الآخرين ما قرأت.
شكرا خاصا لـ "ر" التي تشاطرني هواية لا يشاركني الكثير فيها.


للتحميل و إلقاء نظرة - صيغة سي.بي.آر : (كبرياء بغداد ، وداعا شنكي رايس ، سينما بنوبتكوم )




٢٣‏/٠٣‏/٢٠٠٩

نهاية الحضارة

في طفولتي ، لم نكن نعرف الدش بعد ، لذا اعتدنا أن نستأجر الأفلام من نادي ڤيديو قريب ، و استمرت الهواية لعدة سنوات ، لدرجة أن وجدت نفسي ذات مساء واقف في المحل و لا أعرف ماذا أستأجر ، فقد شاهدت كل الأفلام.
و كنا قد اعتدنا أن نأتي بالأفلام مثنى أو ثلاثا ، و كنت أهوى الأفلام الدرامية ، أما أبي الذي كان يشاركني المشاهدة - فضلا عن أنه يدفع الجنيهات - كان له رأي آخر ، فقد كان دوما و قبل ان أنزل للنادي لاستبدال الأفلام ، يقول لي بكل روية:
- أحمد ، حاول تشوفلنا أفلام من نهاية الحضارة .
و كنت افهم تماما ما يريد ، فقد كان مولعا بالافلام التي تدور في المستقبل بعد أن تفنى الحروب هذا العالم ، و يعيش الناس في عصور من الهمجية و يرتدون ملابس لامعة جامعة لكل العصور و الثقافات، و حلي و كماليات مذهلة في قبحها و انعدام التمازج ، و عادة ما تصحبهم فتاة بملابس ساخنة ، و لا يخلو فيلم من موتوسيكلات او بدائلها.
مثال لما أعني ،
أو ربما هذا(التريلر)

تذكرت هذه الفترة الضحلة من حياتي بينما أقرأ مراسلات نهاية الحضارة ، التي وضعها بيسو .
فعنوانه: " نهاية الحضارة" هو عنوان قاتم يساير مزاجي ، ووجدت نفسي اتخذه مثلا ، كلما سمعت عن عجيب الأخبار فأقول : يالله ، إنها نهاية الحضارة.
و الحقيقة فإني سُقت كل هذا الهراء بأعلاه لأضع بعض الصور التي صورتها بكاميرا التليفون للأسف ، لأمر استعصى علي فهمه، و لكنه ثبت من وجهة نظري نحو الوطن و العالم و الحضارة.
فبينما انا واقف مع الحاج نصر الكهربائي ، أصلح عطبا في سيارتي القديمة ، و بينما نتحدث في أمور الدنيا و الدين ، لاحظت أنني واقف مستند على عمود خشبي ، تتدلى منه أشياء عدة .
بالتدقيق ، وجدت هذه الأشياء هي : مجموعة من عُلب "لا ڤاش كي ري" الفارغة معلقة في خيط ، و معها منبّه إيقاظ زهري اللون ، و أسفلها كيس من الملح متدلي بخيط في نفس العمود ، بينهم أوراق شجر بلاستيكية ، و قاعدة عبة حلاوة طحينية بلاستيكية، و بأعلاهم رأس فيل دمية . كما في الصورة:

المتأمل للوضع سيشاهد ألعابا تجلس في الأرض حول العمود ، و أمامها علب ملآي بالماء لتشرب او زجاجات قديمة مملوؤة ماءً أيضا.
خفت في الحقيقة .
قلت للحاج نصر: ايه ده يا حاج؟
قاللي: ده جارنا ، المحل اللي جنبنا ، بقاله مُدة بيعمل حاجات غريبة قدام المحل.
نظرت أمام محل جاره المغلق ، و شاهدت ما ذكرني تماما بأشرطة الڤيديو القديمة تلك. فقد قام الرجل بجمع كل ما تيسر له من أشياء و ربطها ببعضها على الرصيف أمام دكانه المغلق وفقا لتتابع و منطق لا يعلمه إلا هو و الله تعالى، و بعد ذلك قام بوضع بعض النباتات لاغلاق هذا الجزء من الرصيف حكرا لعالمه الخاص هذا.
سألت عن الرجل ، قالوا لي انه كان ضابطا سابقا ، و لكنه انهى معاشه، و كان له هذا الدكان في المنطقة مغلقا ، فعاد له مؤخرا، و أصبح الآن لا شاغل له سوى تنميق المكان بل و المبيت فيه احيانا. و لا يمارس من خلاله أي نشاط تجاري كان.
فوق زجاجة الزيت الحمراء توجد بطة صفراء


و المدقق في الصورة السابقة - وهي للركن الايسر من ارض الرجل - سيشاهد انه قام بتجميع ما تيسر من كسر الرخام ، و كسر المرايا ، تلك المرايا يسمونها العمال بالمنطقة : الرادارات ، لانهم يظنون أنه يراقبهم من خلالها حسبما حكوا لي. فضلا عن كم رهيب من الفلين ، و الزهور المجففة.
على عتبة مدخل مساحته هذه ، وضع عدد من الاواني البيضاء و ملأها بالماء ، فضلا عن قطع فلين قديمة
، و طبعابعض الزرع المجفف ، ناهيك عن الصبارات التي استخدمها كحاجز.


تلك الشجرة التي تظلل فنائه ، قام بتعليق شيئين عليها ليتدليا من غصونها،
على اليمين حبل فيه : شكل لطائر من الموكيت ، آية قرآنية ، مشابك غسيل عديدة.
اليسار : حبل يمسك صفحة من نتيجة تحمل صورة أبي الهول (لا تظهر لانها ملتفة هنا)


و هكذا ، اعود إلى نقطة الأصل : "نهاية الحضارة" فحيثما تعلمت في طفولتي ، فإذا اجتمعت هذه الصور في مكان واحد ، فإنها تعني أن العالم قد فُني ، و أنه لا بد من تدميره و إعادة بنائه . مستخدمين دراجات نارية ، و ملابس عشوائية ، و فتاة شرسة بملابس ساخنة.
و لهذا لم استغرب أن قابلت صديقة صبيحة اليوم التالي ، و قالت لي عن حلم رأته ، فقد رأت فيما يرى النائم و كأنها دخلت مكانا ما ، فوجدت اصدقاء و معارف يمسك كل منهم بلطة صغيرة فسألتهم عن حالهم و سبب تجمعهم فعلمت انهم مجموعة للتضامن مع غزة و لكن بشكل جديد ، و ذلك عن طريق ان يقطع كل منهم اصابع قدمه، و كان - وفقا لحلمها هذا - يتزايد حجم دعمه للقضية بعدد الأصابع التي يبترها. فكان قائدهم هو من قطع ثلاثة أصابع من كل قدم.
صاحت صديقتي ، و قالت لهم ان هذا الفعل لا يخدم القضية ، قالوا انهم يعرفون ، و لكنه فعل رمزي للاحتجاج.
و بينما تستطرد صديقتي متحدثة عن اشخاص بعينهم في الحلم ، و عمّا قالوه و ما ردت به ، وجدتني اتجاوب معها و مع ردود الناس .. فقد فقدت لوهلة تركيزي ، و تعاملت مع القصة على انها حدثت بالفعل.
و لكنها عندما عادت تحكي عن البلطة ، تذكرت أنه حلم ، قلت في نفسي:اهدأ يا احمد ، الفتاة تروي لك هلوساتها ، هذا لم يحدث بالفعل ، هذا ليس موجودا ، و نهاية الحضارة لم تأت بعد.
فاهدأ قليلا ، و تجرع بقية البيبسي.



The End - The Beatles
المدونة و التدوينات ، بلا حقوق فكرية ، باستثناء الأعمال الفنية و الموسيقات فهي ملكية خاصة لأصحابها.

  ©o7od!. Template by Dicas Blogger.

TOPO